-ترجمة: شمّاء السبيعي
تدوين جريمة الإبادة الجماعية
لقد كتب الكثير عن أصول جريمة الإبادة الجماعية والتي لا حاجة إلى تكرارها هنا. ومن المعروف أن ليمكين كان ينظر إلى الإبادة الجماعية باعتبارها مفهومًا واسعًا، أي أنها أعمال مختلفة تهدف إلى تدمير ثقافة الجماعات وسبل عيشها، ومن نفس المنطلق وصف قرار الأمم المتحدة رقم 96 لعام 1946 الإبادة الجماعية بأنها حرمان جماعات بشرية من حق الوجود بالكامل، بما في ذلك الجماعات السياسية. غير أن نطاق التعريف المعتمد في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 أضيق من هذا بكثير. فالتدمير الثقافي والنقل القسري للسكان لم يدرجا في النص النهائي، كما أن الجماعات المحمية مقيدة ومحدودة الوصول إلى الولاية القضائية، ومع ذلك يجب فهم الاتفاقية في سياقها الزمني. ومن اللافت للنظر بعد وضع الخلفية التاريخية في الاعتبار أن الاتفاقية تم اعتمادها على الإطلاق، وتولد التأييد واسع النطاق من خلال تقديم تنازلات وفرض متطلبات صارمة.
ومنذ عرفت الاتفاقية جريمة الإبادة الجماعية ودونتها كجريمة مستقلة، ظل تعريف الإبادة الجماعية ثابتًا في القانون الدولي. وربما كانت محكمة العدل الدولية قد أعلنت قبل الأوان وضعها العرفي في عام 1951، والذي تم تقويته فيما بعد من خلال النسخ الحرفي للمادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية في النظام الأساسي للمحكمتين الدوليتين المختصتين، وكذلك نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وقد أسهم هذا بالتأكيد في تحقيق اليقين القانوني، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار التدوين نعمة للتطبيق الثابت نسبيًا لتعريف الإبادة الجماعية على المستوى الدولي. ومع ذلك فإنها نقمة تحول دون مرور الجريمة بتطور مماثل لتطور الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وحتى جرائم الحرب. وكان من الممكن معالجة هذا الجانب السلبي للتدوين المبكر بشكل جزئي على الأقل من خلال التفسير الغائي والتطويري للجريمة. غير أن المحاكم الدولية أخفقت في إدراك إمكانية التعريف وبالتالي ساهمت في الإحباطات المحيطة بمحاكمات الإبادة الجماعية وكذلك الادعاءات بأن الإبادة الجماعية اليوم جريمة لا لزوم لها.
المعضلات التفسيرية والتناقضات الهيكلية:
بالرغم من أن صياغة التعريف ظلت كما هي منذ 70 عامًا، إلا أنها لا تزال محاطة بمعضلات تفسيرية مثل: (المعرفة مقابل النهج القائم على الغرض، نظرية الإبادة الجماعية الوحيدة مقابل شرط العنصر السياقي، وكل المجموعات المستقرة والدائمة مقابل القائمة الوثيقة التي تتألف من أربع مجموعات محمية، والدمار المادي مقابل الدمار الاجتماعي، إلخ) وقد أدت هذه المعضلات إلى تناقض التفسير القضائي لبعض العناصر واختلاف مفاهيم الإبادة الجماعية في السوابق القضائية والمؤلفات الأكاديمية.
ومن الواضح أن تعريف الإبادة الجماعية يتمحور حول محرقة اليهود، وجذوره التاريخية لا تعكس بالضرورة القيم والبيئة السياسية للقرن 21. بادئ ذي بدء، من الصعب في بيئة اليوم تبرير إدراج بعض الجماعات بينما يترك آخرون بلا حماية. والتعريف يعاني من عدم اتساق هيكلي، بعضها نتاج عملية الصياغة التي تم خلالها حصر المفهوم الأصلي للإبادة الجماعية بشكل غير متسق. والبعض الآخر مستمد من السوابق القضائية التي فسرت العناصر القضائية لهذه الجريمة تفسيرًا مقيدًا ومن ثم أدرجت أنماط حقائق غامضة نسبيًا تحت هذا النموذج الضيق.
ولتوضيح آخر نقطة، لعلنا نتذكر الإبادة الجماعية المرتكبة في سربرينتشا. رغم أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة من كرستيتش فصاعدًا أصرت على تفسير صارم للدمار المادي أو البيولوجي. ويمكن الاحتجاج بأن وقائع القضية تتناسب أكثر مع مفهوم تدمير الجماعة بوصفها كيانًا اجتماعًيا مختلفًا. وبالرغم من الإصرار على تفسير "نية التدمير" على أساس الغرض، والغرض – النية الإبادية المشتركة للجاني- في الواقع يستنتج من معرفته أو معرفتها.
مثال على عدم الاتساق الهيكلي يمكن النظر إليه في صياغة الفعل الإجرامي من منظور جهة فاعلة تابعة، بينما التفسير القائم على الغرض لنوايا التدمير معيار قيادي (النية الإجرامية). ومن نفس المنطلق، التفسير الرئيسي لكلمة "تدمير" مقصور على التدمير المادي أو البيولوجي للجماعة. ويبدو أنه منفصل بعض الشيء عن قائمة أعمال الإبادة الجماعية، ومن الواضح أكثر أنه منفصل عن النقل القسري للأطفال الذي يذكر بمفهوم الإبادة الجماعية الثقافي المهجور، وكذلك عن طريق التسبب بضرر عقلي خطير بما فيها تلك الناتجة عن الاغتصاب.
هل الإبادة الجماعية "جريمة الجرائم"؟
بينما يزعم البعض بأن التفسير القضائي وسع نطاق الجريمة بشكل ملحوظ، لكن الواقع يتعارض مع ذلك تمامًا. في الحقيقة جميع المعضلات المبينة أعلاه قد حلت شكليًا على الأقل بفضل النهج التقييدي.
أحد مبررات التفسير الدقيق (حتى قبل تأييد نظام روما الأساسي الواضح للمبدأ) يكمن في الاعتقاد بأن التفسير الواسع لعناصر الإبادة الجماعية قد يضعف من مكانتها بوصفها جريمة الجرائم، وإلحاق وصمة عار معينة وازدراء أخلاقي. وكما أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان - مستشهدةً بموافقة محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة- تتجلى خطورة الإبادة الجماعية في المتطلبات الصارمة التي يجب استيفاؤها قبل إثبات الإدانة. وعلى الرغم من بعض المحاولات الأولية لوضع الإبادة الجماعية رسميًا أساسًا لتسلسل هرمي وهمي للجرائم الدولية. ولكن المحاكم المختصة في نهاية المطاف اتخذت وجهة نظر صارمة مفادها أنه لا وجود لمثل هذا التسلسل الهرمي، وأنه لا يجوز الحكم على بعض الجرائم بقسوة أكثر من غيرها. وبالتالي، ومن هذا المنطلق على الأقل، لا حاجة لتفسير عناصره تفسيرًا مقيدًا.
وفي نفس الوقت، تبين البحوث أن العقوبات المفروضة على مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية تفوق بكثير العقوبات المفروضة على جرائم دولية أخرى وتواصل العديد من الدوائر وصف الإبادة الجماعية "جريمة خطيرة بشكل استثنائي" متميزة عن الجرائم الخطيرة الأخرى مثل الاضطهاد والجرائم الإنسانية. والطريقة التي عالجت بها المحاكم الدولية مسألة ما إذا كانت الإبادة الجماعية هي الجريمة القصوى أم لا ربما كانت أحد أكثر الجوانب العصيبة للاجتهاد القضائي للمحاكم المختصة.
الإبادة الجماعية – جريمة زائدة عن الحاجة؟
في السنوات الأولى التي تلت اعتماد اتفاقية الإبادة الجماعية، لوحظ أن الاتفاقية "غير ضرورية عندما تكون قابلة للتطبيق وغير قابلة للتطبيق عند الضرورة" ومن الواضح أن الإبادة الجماعية مفهوم مشحون سياسيًا. واكتسبت كلمة الإبادة الجماعية قدرًا غير عادي ودعائي تقريبا من السلطة. وإنشاء رغبة غير مناسبة في تطبيقها على جميع أشكال المعاناة البشرية الجماعية وخلق ضحية قادرة على التنافس. وأخيرًا، بسبب تطور الجرائم ضد الإنسانية التي تخلت عن صلتها بالصراع المسلح فقدت الإبادة الجماعية أهميتها العملية الأولية والتماسها القانوني.
كل ذلك يؤدي إلى استنتاج مفاده أن الإبادة الجماعية اليوم جريمة زائدة عن الحاجة. ومع ذلك إذا تم التخلص من الإبادة الجماعية فإن ضغوطًا مماثلة ستفرض على الجرائم ضد الإنسانية، لا سيما إذا أدرج شرط تحكيمي قوي في النص النهائي للاتفاقية المقترحة بشأن الجرائم ضد الإنسانية. وبالإضافة لذلك، إذا تم تجاهل الوظيفة التعبيرية للقانون، قد يتساءل المرء عمّا إذا كان مفهوم الجرائم الدولية ضروريًا في المقام الأول ويمكن محاكمة كل هذه الجرائم بصفتها جرائم عادية.
القانون يعبر عن القيم المجتمعية، ولا يمكن إنكار كون الإبادة الجماعية في الخطاب المشترك أسوأ جريمة. وقد تحاول مؤسسات العدالة الجنائية جاهدة (رغم عدم اتساقها) أن تقول بأنه لا يوجد شيء أقل خطورة بشأن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، ولكن من الواضح أن هذا غير مفهوم للمستمعين، ومن الإنصاف القول بأن المبادئ المنحرفة عن الفهم الشائع للصواب والخطأ لن تقبل عمومًا. وبالتالي، إذا كان التفسير القضائي منفصل تمامًا عما يعتبره جمهوره إبادة جماعية فستفشل المحاكم الدولية عن نقل الرسالة المقصودة ولن ينظر إليها كسلطات تشريعية.
ومن ثم فإن مفهوم الإبادة الجماعية في حد ذاته ليس هو ما يجب التخلي عنه، بل النموذج التقييدي الذي عفى عليه الزمن ومازالت الإبادة الجماعية عالقة فيه.
ماهية جريمة الإبادة الجماعية
أشمل طريقة لتطوير تعريف الإبادة الجماعية هي من خلال تحديث رسمي للتعريف، ويمكن القيام بذلك من خلال توسيع مسودة الاتفاقية الحالية بشأن الجرائم ضد الإنسانية، وإدراج تحديث لاتفاقية الإبادة الجماعية. كما اقترح كريس. وبدون تعديل على المستوى الدولي قد لا يمكن التخلي تمامًا عن النموذج التقييدي. على سبيل المثال لتوسيع نطاق الجماعات المحمية ويمكن تحقيق بعض التحسينات بمجرد التفسير الغائي والتطويري. إن حل المعضلات التفسيرية المبينة أعلاه لصالح النهج الأكثر اتساعًا لن يؤدي أساسًا إلى نتائج مختلفة للمحاكمات. على سبيل المثال، بالاعتراف بالعنصر السياقي كونه العنصر القانوني للجريمة واعتماد التفسير القائم على المعرفة للقصد المحدد. فإن المحاكم ستسهم في تحقيق الاتساق بين ما تقول أنها تفعله وما تفعله بالفعل. وبطريقة مماثلة فإن تفسير نية التدمير بحيث تشمل التدمير الاجتماعي من شأنه أن يكفل المزيد من الانسجام الهيكلي بين نية الإبادة الجماعية وبعض أعمال الإبادة الجماعية، دون تغيير ماهية الجريمة.
من الواضح أن هناك حدودًا للتفسير الواسع النطاق، بما ذلك مبدأ الإنشاء الصارم الوارد في المادة 22 (2) من نظام روما الأساسي. ومع ذلك فإن التفسير الواسع النطاق لن يكون غير مسبوق تمامًا حتى في المحكمة الجنائية الدولية (على سبيل المثال انظر النهج الجديد الذي تتبعه المحكمة الجنائية الدولية مؤخرًا إزاء جرائم الحرب المتمثلة في العبودية الجنسية والاغتصاب في نتاغاندا ونقدها). وعلاوة على ذلك في نظام متعدد المصادر القانونية بما في ذلك القانون العرفي، ينبغي تفسير قاعدة الإنشاء الصارم على أنها تستبعد أي إنشاء قضائي للقانون بالجملة وليس تفسيره وتطويره.
وبالاعتراف بالإمكانات الكاملة لتعريف الإبادة الجماعية يمكن للمحاكم الدولية أن تكسر لعنة التدوين المجمد، وتفسير وتطبيق التعريف بطريقة تعكس بشكل أدق التوقعات المشروعة للبيئة القانونية والسياسية للقرن الحادي والعشرين.
المرجع:
Maja Munivrana Vajda
Commentaires