- بشائر الزير
في بدايات ظهور المسيحية في الإمبراطورية الرومانية كان لها تأثير في النواحي الدينية والاجتماعية دون السياسية، نتيجة لإيمانهم بضرورة طاعة الحاكم تطبيقاً لأمر المسيح عليه السلام "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
لكن معاناة المسيحيين بدأت عندما جعل الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول المسيحية دين الدولة الرسمي، وتخلت الدولة عن حرية العقيدة التي كانت سائدة في بداية ظهور الكنسية. تزايد دور الكنسية وأصبح البابا في روما يتمتع بسلطات دينية وسياسية واسعة، مما أدى لخلق صراعات وحروب دينية شديدة بدأت بين الكنيسة البروتستانتينية والكنيسة الكاثوليكية أدّت إلى صراعات بين الكنيسة والدولة.
وبعد مرور 30 عاما من الحروب الطاحنة، والتي أسفرت عن حصد ملايين الأرواح وحصول المجاعات وانتشار الأمراض، أدركت القوى المتصارعة أنه لن يستطيع أي طرف القضاء على الطرف الآخر نهائياً، ولا سبيل لإنهاء تلك الحرب إلا من خلال الحلول السلمية وتقديم فكرة التحاور والدبلوماسية التي ظهرت تدريجياً، وأن يتنازل البابا عن السلطة السياسية ويقتصر على الحياة الدينية، ومن هنا بدأت فكرة مبدأ "التعايش الديني" بين البروتستانت والكاثوليك والإيمان بحرية الاعتقاد.
عُقدت المعاهدة عام 1648م،حيث اجتمع مندوبو الإمبراطور فرديناند الثالث للإمبراطورية الرومانية، وملوك فرنسا وإسبانيا والسويد وهولندا وحكام الولايات الألمانية، وأقروا جملة من المبادئ، وسُميت بمعاهدة وستفاليا نسبة إلى المقاطعة الألمانية التي تم عقد المعاهدة فيها.
تمثل المعاهدة حجر الأساس للقانون الدولي العام بشكله الحديث، حيث طرحت الأساليب الدبلوماسية في العلاقات الدولية، وأظهرت لنا الدولة القومية بمفهومها المعروف اليوم. ومن أهم تلك المبادئ مبدأ السيادة القومية؛ فقد أرست المعاهدة هذا المبدأ الذي لم يكن معروفاً في العالم ولا أوروبا على وجه الخصوص، ويقصد به أن يكون للدولة سيطرة كاملة على إقليمها الخاص لإصدار قراراتها في حدوده، وأن يكون لها الحق في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي دون تدخل خارجي. وتعد المعاهدة إضافة لإنهاء الحروب الدينية الطاحنة.
ومن المبادئ أيضا مبدأ الولاء القومي؛ فيكون ولاء المواطن للدولة فقط دون الكنسية، وهذا الفصل حال دون اندلاع الحروب الدينية مرة أخرى. ومن المبادئ كذلك مبدأ التوازن الدولي والذي يعني تعادل الإمكانات السياسية والاقتصادية والقوى العسكرية بين دولتين أو أكثر على المستوى الإقليمي أو بين الدول العظمى؛ بقصد منع أي دولة من محاولة الاستئثار بالنفوذ لفرض سيطرتها على فئة أخرى بما تملكه من تفوق عسكري وإمكانات اقتصادية كبيرة ووسائل إعلامية متقدمة. وأخيراً، أقرّت مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، والذي عرّفته الأمم المتحدة بأنه حق الشعوب في أن تقرر بحرية وضعها السياسي وأن لها السعي بحرية في تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بالإضافة إلى ذلك تم إعلان استقلال هولندا وسويسرا، وإقرار المذهب البروتسانتي كعقيدة معترف بها واسترداد رجال دينهم ما تم انتزاعه من أملاك سابقاً.
وختاماً، يتضح أن معاهدة وستفاليا تعد من أهم المعاهدات في العصر الحديث، حيث إنها أحدثت نقلة نوعية في القانون الدولي وساعدته على الظهور وأنهت الصراعات الدينية والطائفية في أوروبا التي كانت تعيش عصوراً مظلمة استمرت 30 عاماً.
Comments