حصانة دبلوماسية أم مسؤولية جنائية؟ مقتل هاري دن

- فاطمة الدار

دائمًا ما نُظر للدبلوماسية على أنها الحجر الأساس للعلاقات الدولية، ولهذا السبب فإن حماية الدبلوماسيين العاملين في الدول الأجنبية يُعد جزءًا لا يتجزأ من السياسية الدولية؛ وذلك لإبقاء سُبل التواصل مفتوحة بين الدول، حتى في فترات التوتر والصراع. واستجابةً لهذه الحاجة الماسة؛ بدأ المجتمع الدولي قبل أربعمائة عام بإنشاء نصوص قانونية تضمن حماية الدبلوماسيين من المضايقات، والاعتقالات، والتدخلات التعسفية خلال أداء عملهم ممّا أدى إلى استثناء الدبلوماسيين من القوانين السارية على عامة المواطنين أثناء أدائهم لمهامهم الدبلوماسية كممثلين لحكومات أوطانهم في الخارج.

وفي الوقت الحالي، فإن الحصانة الدبلوماسية محمية بشكل أساسي عن طريق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م، حيث تفصل الاتفاقية بين البعثات الدبلوماسية والقوانين المحلية ممّا يُمكن الدول من الحفاظ على علاقات سلسة. وبناءً على ما سبق، فإن العلاقات الدبلوماسية يحكمها مبدأين حديثين: أولهما مبدأ الحصانة من التشريع الوطني؛ أي أن ممثلي الدول لا يخضعون لقوانين البلد المضيف والذي يضمن حمايتهم من الاحتجاز والاضطهاد والتدخل أثناء قيامهم بعملهم، ثانيًا مبدأ المعاملة بالمثل حيث إن الدولة المضيفة تحترم حقوق الدبلوماسيين الأجانب على افتراض أن ممثليها في الخارج سيُعاملون على قدم المساواة.

الاستيلاء على سفارة الولايات المتحدة في إيران عام 1979م:

على الرغم من وجود ما ينظم القانون الدبلوماسي من اتفاقيات وأعراف إلا أن المبادئ الدبلوماسية الحديثة قد تُخفق في الحالات المستعصية؛ كما حصل في الرابع من نوفمبر لعام 1979م عندما هاجم عدد من المتظاهرين الإيرانيين السفارة الأمريكية في طهران واحتُجِزَ 52 موظفًا من السفارة كأسرى وأطلق سراحهم بعدما تم سجنهم وتعذيبهم 444 يومًا. وبالتأكيد قطعت الدولتين العلاقات الدبلوماسية بينهما حتى يومنا هذا، وعُدّ الحدث مصدر فخر قومي لإيران.

وفاة هاري دن عام 2019م:

ومن الأمثلة الحديثة للوقائع الجسيمة التي واجهت مفهوم الحصانة الدبلوماسية هو وفاة هاري دن في 27 من أغسطس لعام 2019؛ وتتلخص وقائع القضية كالتالي:

1. كان الشاب البريطاني هاري دن البالغ من العمر 19 عامًا آنذاك يقود دراجته النارية بالقرب من كروتون لمدينة نورثهامبتونشاير في المملكة المتحدة.

2. اصطدم هاري دن مع مركبة تسري في الاتجاه المعاكس من الطريق؛ وكانت قائدة المركبة هي آن سكولاس -موظفة في وكالة المخابرات المركزية في الولايات الأمريكية المتحدة، وزوجة جوناثان سكولاس موظف وكالة المخابرات المركزية التابعة لسلاح الجو الأمريكي في كروتون-.

3. أودى الحادث بحياة هاري دن وتمّ إعلان وفاته بعد نقله للمستشفى.

4. اعترفت السيدة سكولاس بقيادتها للمركبة في الاتجاه المعاكس من الطريق كما أكدت كاميرات المراقبة مسؤوليتها عن الحادثة.

5. بعد وقوع الحادث، تناقشت السفارة الأمريكية مع وزارة الخارجية البريطانية عن تمتع السيدة سكولاس بالحصانة الدبلوماسية والتي تضمن لها الحماية ضد التهم الجنائية الموجهة لها من قِبل نظام العدالة الجنائية البريطاني.

6. قبلت وزارة الخارجية البريطانية الحصانة الدبلوماسية للسيدة سكولاس وغادرت المملكة المتحدة في 15 سبتمبر من 2019م.

قرار محكمة ولاية فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية:

في التاسع من سبتمبر عام 2020، تم رفع دعوى قضائية في محكمة ولاية فيرجينيا في المملكة المتحدة من قِبل والدي هاري دن، شارلوت تشارلز وتيم دن، ضد آن سكولاس وزوجها جوناثان سكولاس. وتلخصت ادّعاءات المدعيين ضد المدعى عليهما بالإهمال، والإخلال بالواجب، والتسبب بالموت الخطأ، والإيقاع المتعمد بالضرر العاطفي على والدي الضحية. وكون هذا النوع من حوادث السير في الولايات المتحدة الأمريكية يحمل مساءلة مدنية لا جنائية عكس المملكة المتحدة، فإن المطالبات كانت بشكل أساسي تعويضات مدنية، كما طالب المدعيين محاكمة تتضمن هيئة محلفين لأن وجودها أمر غير متعارف عليه في المحاكمات المدنية.

قرار المحكمة العليا بالمملكة المتحدة:

في الحادي عشر من نوفمبر عام 2020، رُفعت دعوى قضائية في المحكمة العليا الكائنة في لندن من قِبل شارلوت تشارلز وتيم دن ضد وزارة الخارجية البريطانية ورئيس شرطة مدينة نورثهامبتونشاير. وكانت الادعاءات الأساسية المقدمة في المحاكمة كالتالي:

1. عدم تمتع السيدة سكولاس بالحصانة الدبلوماسية وقت وقوع الحادثة.

2. عدم مشروعية إبلاغ وزارة الخارجية البريطانية للسفارة الأمريكية بالحصانة الدبلوماسية المُحتملة التي تتمتع بها السيدة سكولاس كونه يُعرقل التحقيق الجنائي ويُعد إساءة استخدام السلطة من قِبل وزارة الخارجية لأن الحصانة الدبلوماسية تُحدد عن طريق المحكمة لا الوزارة بعينها.

3. انتهاك المادة الثانية "الحق في الحياة" من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

وبعد الاستماع للطرفين؛ خلصت المحكمة إلى رفض جميع الادعاءات من طرف المدعيين وحكمت بأن السيدة سكولاس تتمتع بالحصانة الدبلوماسية وقت وقوع الحادثة.

ختامًا، عائلة هاري دن ما زالت تطالب آن سكولاس بالرجوع للمملكة المتحدة والخضوع لِنظام العدالة الجنائية البريطاني والتخلي عن حصانتها الدبلوماسية. إلا أن السيدة سكولاس رفضت هذه المطالب وقامت بدورها بمحاولة تخفيف عبء وفاة الشاب البريطاني عن طريق إحياء ذكراه؛ ولكنها لم تطأ المملكة المتحدة منذ وقوع الحادث.