- فاطمة الدار
عندما وصل الدبلوماسي سيرجيو فييرا دي ميلو للعراق في عام 2003 م لشغل وظيفة مؤقتة لمدة ثلاثة أشهر، كان يتطلع أن يُميز نفسه وعمله في مقر الأمم المتحدة عن الغُزاة الأمريكيين للعراق. وخلال عمله القصير في مقر الأمم المتحدة في العراق؛ أمر سيرجيو فييرا خفض إجراءات الأمن لتكون سهلة الوصول من قِبل العراقيين الراغبين بالإنصاف والعدالة، وهذا ما فشلت إدارة سلطة الائتلاف الأمريكية المؤقتة القيام به. وفاض مقر الأمم المتحدة شيئًا فشيئًا بأعدادٍ من المدنيين الملتمسين للمساعدة، إلا أن هذا لم يكن كافيًا لإيقاف العداء بين المواطنين والجهات الأجنبية، حيث أنّ أغلب العراقيين كان لديهم تصوّر عن مجلس الأمن بكونه أداة في يد العدو المتمثلة بأمريكا الشمالية. ومع ذلك، ظلّ سيرجيو متمسكًا برأيه الناقم على أفعال الاحتلال الأمريكي بقتل المدنيين العراقيين دون وجه حق، كما انتقد علانيةً نبذ العراقيين من مشاركة الإدارة في السلطة واحتكارها من قِبل قوات الاحتلال.
" من يود رؤية بلاده مُحتلة؟ لا أريد رؤية دبابات أجنبية في كوباكابانا!"
- سيرجيو فييرا دي ميلو لصحفي برازيلي، 2003 م
كان سيرجيو يتوق إلى إنهاء عمله في العراق ليتسنى له الاستمتاع بإجازةٍ طويلة على رمال شواطئ ريو دي جانيرو، تلحفه شمس وطنه، محاطًا بالشعب الذي أفنى حياته للعمل لأجله، غافلًا عن العراق وكل شقائه فيها. وعلى الصعيد المهني، كان يتطلّع للرجوع إلى منصبه الأساسي كمفوض سامٍ لحقوق الإنسان مستفيدًا من خبرته الجديدة لِتحسين أداء وإجراءات العمل. إلا أن هذه التطلعات اجتُثت من مهدها في صبيحة يوم شديد القيظ بتاريخ 19 أغسطس لعام 2003 م.
تفجير فندق القناة في بغداد بالعراق:
"أتذكر أن التوتر قد بدأ بالتصاعد، كان هناك هجوم مفخخ بالقنابل في السفارة الأردنية في بغداد. كان هناك شعور بأن الأمور أصبحت أكثر عنفًا. كان الجو حارًا جدًا أيضًا، أتذكر بأنه كان حوالي 50 درجة مئوية في الخارج ولم يكن هناك كهرباء لتشغيل أي تكييف، ولم يكن من السهل دائمًا الحصول على الماء. أعتقد أن الكثيرين منا سيتذكرون تصاعد التوتر العام، سواء كان توترًا مناخيًا أو سياسيًا في ذلك الوقت."
- أندرو كلابهام في أحد مقابلات الأمم المتحدة، 2018 م
في ذلك اليوم التعيس، قامت بعض الخلايا الإرهابية بالتسلل لفندق القناة في بغداد -مقر الأمم المتحدة آنذاك- بسيارة مفخخة بالمتفجرات. على حين غُرة حدث انفجار عظيم، وخيّم الظلام لعدة ثوانٍ في فندق القناة. لكن أصعب ما في الانفجار هو اللحظات التي تليه، لا شيء سوى الحُطام، الغبار، وصراخ أولئك الذي بقوا على قيد الحياة مليئًا بالخوف والرعب.
"ما حدث، كما تعلمون، أن زاوية المبنى كلها كانت قد انهارت. ليس بعيدًا جدًا عن قاعة الاجتماعات تلك -التي كنت فيها- قُتل أشخاص في الردهة، وغُطي آخرون بالغبار. بدى الناس كالدمى البيضاء، وأحيانًا ملطخين بالدماء."
- فرانسيس ميد في مقابلة من مقابلات الأمم المتحدة، 2018 م
بعد مباشرة عملية الإنقاذ من قِبل سيارات الإسعاف والتي استمرت لمدة أربع ساعات بالرغم من نقص المعدات اللازمة، تمّ العثور على سيرجيو على قيد الحياة لكنه لم يستمر طيلة مدة الإنقاذ وأُزيل من الركام كجثة هامدة. أقيمت الجنازة في ريو دي جانيرو بالبرازيل، ودُفن في جنيف بسويسرا. بجانب سيرجيو، توفي واحد وعشرون عاملًا من عُمال الأمم المتحدة من عدة دول عربية وغربية كما جُرح آخرون.
ما بعد عملية التفجير:
تمخضت العملية الإرهابية في مبنى الأمم المتحدة إلى تغيير إجراءات الأمن المتخذة في المنظمات الدولية التي تهدف للمساعدة الإنسانية بشكل لا رجعة فيه. حيث اجتمع الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك مع مجلس الأمن بنيويورك لمناقشة الهجوم الإرهابي الذي أودى بحياة المبعوث سيرجيو فييرا دي ميلو في بغداد سعيًا إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن لعمّال المساعدات الإنسانية. وأيضًا زادت الهجمات على عُمّال الإغاثة الإنسانية اعتقادًا بأن تأدية هذا النوع من الأعمال مُنحصر على المنظمات الغربية، حيث أن عمّال الإغاثة كانوا مُحترمين ولم يسبق لهم أن يكونوا هدفًا للأعمال الإرهابية قبل ذلك. وبعد خمس سنوات قررت الأمم المتحدة إعلان هذا اليوم كيوم عالمي للعمل الإنساني تأبينًا لذكرى سيرجيو فييرا دي ميلو والعمّال الآخرين الذين لقوا حتفهم إثر هذا الحادث. وفي كل عام يتم جمع الشركاء الدوليين من جميع بقاع العالم للمشاركة في سباق جري يهدف للحفاظ على سلامة ورفاهية وكرامة المتضررين من الأزمات، مع أمن وسلامة عمال الإغاثة الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأمم المتحدة صنفت هذا اليوم بكونه "أحلك يوم في حياتنا في الأمم المتحدة" على حد تعبير الأمين العام آنذاك كوفي أنان، لكونه أول استهداف للأمم المتحدة على نطاق واسع. إلا أن عمّال الأمم المتحدة لم يهرعوا فارين لدولهم حتى بعد تلك المأساة، رافضين أن يتم ردعهم من قِبل مجموعة من الخلايا الإرهابية، مُصرين على مواصلة العمل الإنساني وتأدية مهمة الهيئة العالمية في العراق.
Komentar