-فاطمة الدّار
صِيغت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من قِبل مجلس أوروبا لعام 1950م، ودخلت حيز التنفيذ في عام 1953م. في الأساس، أُنشئ مجلس أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية للحفاظ على الديمقراطية الليبرالية، وبيان سيادة القانون، والحفاظ على حقوق الإنسان، والحريات الأساسية في الدول الأوروبية. وفي حقيقة الأمر عُدت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان أداة لتقنين مبادئ الدول الغربية الليبرالية. ففي البداية تضمنت الاتفاقية الجيل الأول للحقوق والتي تنطوي على الحقوق المدنية والسياسية بشكل حصري؛ ولم تتطرق إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وذلك يعود إلى أن الأيديولوجية الغربية حاربت الأيديولوجية السوفيتية التي ركزت بشكل أساسي على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وفي الواقع كانت أحد أهم أسباب إنشاء مجلس أوروبا هو محاربة أيدلوجية الإتحاد السوفيتي في بداية الحرب الباردة، وعلى الرغم من ذلك، فقد اعُترف بأهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فيما بعد مما ترتب عليه إضافة بعضاً منها إلى الاتفاقية.
المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان:
تبِعَ صياغة الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تأسيس المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1959م في مدينة ستراسبورغ الفرنسية للإشراف على تنفيذ الاتفاقية من قِبل دول مجلس أوروبا المكون من 47 عضواً. تتمتع الاتفاقية بآلية تنفيذ قوية مقارنةً بأي اتفاقية دولية أخرى لحقوق الإنسان، فقد نصت الاتفاقية في كلاً من المادة 33 و34 على إمكانية أي فرد، أو دولة، أو مؤسسة غير حكومية بغض النظر عن الجنسية التي يحملونها من رفع دعوى قضائية أمام المحكمة على أي دولة خرقت الاتفاقية. وبعد نظر المحكمة في الدعوى المرفوعة أمامها سيكون حكمها مُلزماً قانوناً بناءً على قواعد القانون الدولي.
النهج العام لتفسير الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:
من الطرق الأساسية لتفسير الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان هي الرجوع لقواعد القانون الدولي العام واستخدامها لتفسير بنود الاتفاقية المذكورة في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969م. القاعدة الأساسية المُتبعة هي تفسير الاتفاقية بحسن نية بناءً على المعنى الطبيعي الذي يتواءم مع سياق وأهداف الاتفاقية. على سبيل المثال، في السابقة القضائية لويديك، وبلقاسم، وكوتش ضد ألمانيا لعام 1978م (Luedicke, Belkacem, and Koç v. Germany)؛ اعتمدت المحكمة المعنى المتعارف عليه لكلمة فرنسية تُستخدم عادةً بمعنى مجانية وذلك لإدانة محاكم ألمانيا بانتهاك حق المحاكمة العادلة المنصوص عليه في المادة السادسة من الاتفاقية لعدم توفير مترجم مجاني للمتهمين خلال الإجراءات الجنائية.
الالتزامات السلبية والإيجابية بناءً على نص الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:
تحتوي الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على كلٍ من الالتزامات السلبية والإيجابية المفروضة على الدول الأعضاء. الالتزام السلبي هو عندما تكون الدولة مُلزمة بعدم التدخل في حياة الأفراد؛ ويترتب على عدم التدخل احترام حقوق الأفراد. عادةً تنطبق الالتزامات السلبية على الحقوق المدنية والسياسية التي تشملها غالبية الاتفاقية، منها على سبيل المثال لا الحصر الامتناع عن التعذيب المنصوص في المادة الثالثة، وعدم فرض قيود تعسفية على حرية التعبير المنصوص عليه في المادة العاشرة. وفي الجانب الآخر يتمثل الالتزام الإيجابي في مسؤولية الدولة باتخاذ إجراءات معينة للحفاظ على حقوق الإنسان. غالباً تنطبق الالتزامات الإيجابية على الحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، منها توفير مؤسسات تعليمية لإعمال حق التعليم. وقد تُفرض هذه الإجراءات للحفاظ على الحقوق السياسية والمدنية أيضاً، حيث ذُكرت الالتزامات الإيجابية صراحةً في بعض بنود الاتفاقية. مثلاً بناءً على المادة السادسة يجب تقديم المساعدة القانونية للمتهم وتوفير مترجم إذا لزم الأمر لتحقيق المحاكمة العادلة. ومن المحتمل أن يكون الالتزام الإيجابي مسألة تفسير موضوعي بناءً على وقائع القضية المطروحة. حيث وجدت المحكمة بأن هناك التزامات إيجابية لحماية الاتفاقية من خلال حماية حقوق الأفراد من أفعال الآخرين. فعلى سبيل المثال، في قضية "الأطباء المدافعين عن حق الحياة ضد النمسا" لعام 1988م (Ärzte für das Leben v. Austria)، حيث قامت منظمة غير حكومية لمناهضة الإجهاض بتنظيم مسيرة وقداس ديني أمام عيادة طبيب معروف بإجراء عمليات الإجهاض. وخلال المسيرة، قام عدد من الأشخاص المعارضين لهدف المسيرة بعرقلتها؛ دون تدخل صارم من رجال الشرطة لمنع عرقلة سير القداس الديني. وفيما بعد نُظمت مظاهرة أخرى في ساحة الكاتدرائية في سالزبورغ، تجمع فيها حوالي 350 شخصاً. قام رجال الشرطة بتشكيل حلقة حول المتظاهرين لحمايتهم من الهجوم المباشر، وبعدها قاموا بإفراغ الميدان لمنع تعطل احتفال ديني قائم في الساحة. وجدت المحكمة بأن الدولة مُلزمة بأخذ تدابير معقولة ومناسبة لحماية المتظاهرين من التدخل من قِبل الأفراد الطبيعيين لتعكير صفو مظاهرتهم مما يُمَكن المتظاهرين من ممارسة حق التجمعات السلمية المنصوص عليه في المادة الحادية عشر "حرية التجمع وتكوين الجمعيات" من الاتفاقية.
سريان الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في المحاكم الأوروبية الوطنية:
تُعد الضمانات الدولية لحقوق الإنسان ذات قيمة أكبر عند تطبيقها ونفاذها في القانون الوطني للدولة. وسبب ذلك هو أنه من الأسهل للطرف المتضرر التماس التعويض عن الانتهاك في المحاكم الوطنية بدلاً من الاضطرار للجوء لإجراءات القانون الدولي المعقدة أكثر بطبيعتها. ويجب الأخذ بعين الاعتبار بأن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تُعد الملاذ الأخير في أغلب الحالات؛ حيث يجب استنفاذ جميع السبل الوطنية لاسترجاع الحق المُنتهك بموجب الاتفاقية قبل اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وعليه فإن تطبيق قواعد الاتفاقية في المحاكم المحلية يضفي على عملية نفاذ الاتفاقية وسهولة استرجاع الحقوق الإنسانية الأساسية في حالة الانتهاك. وفي أعقاب ذلك يأتي مبدأ مهم وهو "مبدأ التبعية" كون أن مسؤولية تنفيذ الاتفاقية تقع على عاتق الدول، حاليًا دُمجت مواد الاتفاقية مع القانون الداخلي للدول المتعاقدة مع الاتفاقية. إلا أن تضمين نصوص الاتفاقية في التشريع الوطني غير كافٍ لحماية الدولة من ادعاءات خرق الاتفاقية حيث أن ذلك يعتمد على التفاصيل المُتبعة في تضمين الاتفاقية والنهج المتبنى من قبل مرفق القضاء. كما قال كيلر وستون سويت لتوضيح موقف المحكمة من سريان الاتفاقية في المحاكم الوطنية "وإذا كانت الأمور الأخرى متساوية، فإن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تُشكل فاعلية أكبر عندما تُلزم حقوق الاتفاقية من قِبل الدول المتعاقدة بناءً على حكم القانون والواقع، والتي تتلخص بالآتي:
إلزام كافة المسؤولين الوطنيين في موضع ممارسة السلطة العامة بتطبيق الاتفاقية؛
تمتع الاتفاقية بمكانة فوق المكانة التشريعية الوطنية على الأقل (أي أنها تحتل مرتبة أعلى من مرتبة القانون الوطني في التسلسل الهرمي للقواعد القانونية)؛
إمكانية الأفراد من المطالبة بالحقوق التي تنص عليها الاتفاقية مباشرةً أمام القضاة المُلزمين بالتنفيذ المباشر، مع عدم تطبيق القواعد القانونية المتناقضة مع الاتفاقية."
ومن الأمثلة المثالية لتلبية المعايير الثلاثة المذكور من قِبل كيلر وستون هي النمسا، وهولندا، وبلجيكا، وسويسرا، وإسبانيا. علاوةً على ذلك، فإن المادة 41 من الاتفاقية تنص على إمكانية تعويض الطرف المتضرر من الانتهاك عن التكاليف المادية أو القانونية؛ وللمحكمة حرية تحديد الطريقة المناسبة لجبر الضرر والذي من شأنه الوفاء بالتزامات الدولة المتعاقدة بوضع حد للانتهاك وإصلاح نتائج الضرر. وهذا يُبين أن حكم المحكمة النهائي تفسيري في الأساس؛ بمعنى أنه لا يستند على قواعد صارمة طالما أن التعويض قد مُنح والانتهاك قد توقف.
Comments